عاجل نيوز
جعل البرهان من الجزيرة وجنوبها قطعة من الإسفنج أناط بها مهمة امتصاص فلول المرتزقة
وإخراجهم من مخابئهم في الأحياء السكنية والأعيان المدنية بالعاصمة وضواحيها إلى فضاء مفتوح، ومنطقة قتل مكشوفة..
فاندفعوا بنشوة النصر الزائف لا يلوون على شيء.. وابتلعت الجزيرة جرادها الصحراوي وتركت الأوباش يتفرق شملهم بين الترع والكنابي والتفاتيش!
نَعِمَ الأشاوس بنصر مؤقت ليمنوا بعده بهزائم أخلاقية مهدت لهزائم عسكرية قادمة.. جعلت المليشيا شيئا من الأمس!
ثم طوَّر [البرهان] استراتيجيته فأطمعهم في سنار فاندفعوا صما وعميانا إلى معترك المنايا..
ترك [البرهان] فلول التمرد يسرحون ويمرحون مابين سنجة إلى الدندر إلى جبل موية وجعلهم تحت [قبضة] جنرال سوداني اسمه (خريف سنار).
وفعل بهم هذا الجنرال ما لم يفعله الشتاء الروسي بجيش الإمبراطور نابليون ..
وأحكم البرهان إغلاق الولاية ووضع مفتاح المداخل والمخارج في جيبه ومضى يشرب الشاي بالزلابية في كرري..
لم يترك لهم طرقًا مُعبَّدة، ولا دروبًا ممهَّدة؛ فقط ترك لهم أرضًا زلِقة وسماء ملبّدة، وسيارات قتالية تغوص في الوحل..
و الجيش وقادته طفقوا يتفرجون على فيلم بعنوان: (مرتزقة في المحرقة)..
مرتزَقة يأخذون حماما باردًا من السحاب..
و ساونا حارة حارقة من السوخوي..
والآن…
والمشهد يمكن تلخيصه في سطور..
أن كل مشاريع الزراعة المطرية في سنجة وكوع الدندر وفي [الدالي] والمزموم.. كلها مزروعة إما بآليات معطلة… أو جثث متحللة.. وأشاوس تقطعت بهم السبل..
ليقوم الجيش بأغرب موسم حصاد في التاريخ، وشكرا نسور سلاح الجو على الاصطياد..
وشكرا صقور ( الكلينق) على الحصاد..
وشكرا لجنرال سنار السخي (الخريف) المرعب المخيف..
ومما يذكره التاريخ من عبقريات أهل السودان أمام بلطجة الجنجويد قدامى وقادمين ما يمكن إدراجه تحت عنوان (القتل بدون سلاح)..
قصة عن دهاء أسطوري لشيخ العرب الناظر( ود أب سن) .. لا زالت تطرب لها مجالس السَّمَر في بطانة (أب سن)..
وتبدأ القصة بوصول تشكيل عصابي كبير من جنجويد الخليفة التعايشي إلى معقل ناظر البطانة بغرض السلب والنهب..
وقدموا طلبات تعجيزية تتضمن مئات من رؤوس الإبل.. وقطعانا كاملة من الضان والمعز والبقر وغير ذلك من أموال ( بالغات النصاب انصاري ما زكاهن)!
و الناظر العبقري يكرم وِفادة الجنجويد ويعدهم خيرا.. ( لكن الإبل سترد المشرع الفلاني على “العاديك” بعد غد.. وهناك تختارون منها ما يحلو لكم..)
فخذوا راحتكم هذه الليلة.. ومع الفجر ننطلق بحول الله تعالى
وفي [تلك] الأثناء كان عماله (يعلفون) بعيره الأصهب جيدا..
ومع الفجرية انطلق الركب.. كانوا كلهم على ظهور الخيل وكان وحده على سفينة الصحراء.. ومشى بهم يوما كاملا وليلة حتى أوصلهم إلى (المفازة) ..
وما أدراك ما المفازة.. فيها تتشقق الأرض قبيل الخريف وتتحول إلى حفر وشقوق وأخاديد.. تفغر فمها لتبتلع كل ساق متهور وتصطاد كل كراع متجاسر..
ووجدت الخيول نفسها لا تقوم إلا لتقع، ولا تنهض إلا لتتعثر و تسقط.. وقد أنهكها العطش وبلغ الإجهاد بها وبأصحابها مبلغه
وتكسرت أرجل الخيول
وقد أوهى عزمها المسير
وأضعف عظمها الجوع والهجير
وبينما كانت تتحطم السيقان ويتساقط الفرسان؛ كان بعير شيخ العرب وقد استبد به الطرب يتبختر وكأنه يرقص على البساط الأحمر،
او يمشي على قطيفة حمراء عند كريستيان ديور.. أو ايف سان لوران..
ثم لما أيقن ود أب سن ان القوم تورطوا في( الربع الخالي) السوداني تركهم بدون وداع للسموم ولإعصار المفازة، وللرهاب والسراب..
وأشعل غليونه وأطلق ضحكة مجلجلة وانقلب عائدا إلى موطنه.. واستحث بعيره الأصيل الذي اشتاق إلى معاطنه ..
و كأن ود شُوراني كان يعنيه عندما قال:
ضرّاع المسافات والواطه متسعة
أبيض ليهو زِنْقِدَّة يعوم بالنسعة
عينو في الكرّاج ويابى اللسعة
طيار السعودي وصل الحجاز يوم تسعة
يُقال..
والعهدة على الراوي أن الناظر بعد ٣ أيام طلب تقريرا من مسرح عمليات المفازة..
جاء فيه:
وجدنا حفلة لصقور الجو والضباع وبنات آوى، وعلى قائمة غدائها: فلول وخيول.. وهذه أسلحتهم: بنادق متخلّفة، وبارود سيئ الصنع، وسيوفٌ صَدِئة، وحِرابٌ مهشَّمة ..
و خيول بعدد أصابع اليد نجت بأعجوبة.. وقد وردت نهر الدندر بدون رجال..
دنيا زايلي في (المفازة)
ونعيمكي زايل في( سنار)..