عاجل نيوز
ومن تلك العوامل: أن التقدم العسكري لقوات الدعم السريع واستيلائها على عدد من الولايات، مع الضعف النسبي للقوات المسلحة، قد أدى إلى بلورة تيار شعبي رافض لوحشية الدعم السريع، وقابل للاستنفار والقتال إلى جانب القوات المسلحة.
وقد صارت قوة هذا التيار تزداد مع تجاوب عناصر من الشباب (الإسلاميين وغيرهم) ومن قطاعات من الجمهور الغاضب ممن أخرجوا من منازلهم، وجردوا من ممتلكاتهم، وفرضت عليهم الهجرة والنزوح. وقد يشكل هذا التيار جبهة مدنية-عسكرية يصعب معها إقامة النظام البديل بقيادة الفريق حميدتى-كما كانت تأمل الرباعية.
ومن تلك لعوامل: أن الامداد العسكري الذي تلقته قوات الدعم السريع، ومكنها من الاستيلاء على عدد من ولايات السودان، إضافة إلى الغطاء السياسي والقانوني الذي وفرته لها مجموعة الأربعة .
قد يجعل القوات المسلحة السودانية تسعى بدورها للتقارب مع المحور الروسي الايراني التركي، وهو التقارب الذي سعى إليه الفريق حميدتى من قبل وبذلت مجموعة الأربعة الغالي والنفيس في سبيل إحباطه.
وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن هذا التخوف كان في مكانه تماما؛ فرغم كل ما بذلته مجموعة الأربعة في تعميق الهوة بين السودان وروسيا، إذا بنائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي الى الشرق الأوسط (ميخائيل بوغدانوف) يصل الى بورتسودان (29 بريل 2024) على رأس وفد من وزارتي الخارجية والدفاع استمرت يومين.
ويؤكد في ختام زيارته أن مجلس السيادة السوداني هو السلطة التي تمثل الشعب السوداني وجمهوريته. وإذا بمالك عقار-نائب رئيس مجلس السيادة السوداني يقوم بزيارة الى روسيا (3 يونيو 2023) على رأس وفد من وزارات الخارجية والمالية والمعادن.
ومن تلك العوامل أن الخلاف بين مجموعة الأربعة أصبح يتسع فيما يتعلق بمجمل الوضع السوداني، إذ صارت الولايات المتحدة وبريطانيا يختلفان مع الامارات حول مجريات الحرب في السودان، ويحثانها على المساهمة في انهاء الحرب بالتوقف عن امداد قوات الدعم السريع بالسلاح.
وصار بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي يضغطون على إدارة الرئيس بايدن لتتخذ إجراءات صارمة ضد قوات الدعم السريع. وسقطت حكومة المحافظين في بريطانيا وجاءت على أثرها حكومة عماليه لم تكن جزءاً من الصفقة التي أبرمت مع الفريق حميدتى، ولا يعرف ما إذا كانت ستلتزم بها أم لا تلتزم.
أما المملكة السعودية فهي قد صارت أقرب إلى الجانب الروسي-الإيراني-الصيني، ولم تعد-من ثم- متحمسة ومندفعة في اتجاه الدعم السريع كاندفاع الامارات. فاذا تضاءل الموقف العسكري لقوات الدعم السريع (بغياب قائدها ومقتل كثير من قادتها الميدانيين).
وتباينت الرؤى والمواقف بين مجموعة الأربعة، فقد تتعالى الأصوات المطالبة بفتح ملف الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع أثناء الحرب الأخيرة (خاصة المذابح التي ارتكبت في الجنينة والجزيرة، كما قد يضاف إلى ذلك الدعم العسكري الذي قدمته الامارات لقوات الدعم السريع في مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن السابق.
وقد تجد الامارات نفسها وحيدة في موقف الاتهام؛ مما يضطرها في هذه الحالة الى واحد من خيارين: خيار التراجع، فتوافق على الانسحاب المتدرج من “الصفقة الكبيرة الخاسرة” كما انسحب الآخرون، وأما الخيار الآخر فهو أن تتصلب في مواقفها-اعتماداً على مواردها المالية الوافرة، فتجلب المرتزقة من دول الجوار الأفريقي، وتضخ الدماء في عروق الدعم السريع التي أصابها الجفاف.
فإذا سارت في هذا الاتجاه، وسار معها بعض حلفائها الدوليين، فمن المتوقع أننا سنشهد بروز “صفقة معدلة جديدة”- صفقة يختفي فيها الفريق حميدتى ليحل مكانه أحد أخويه عن الدعم السريع، ويُدعى إليها الفريق البرهان (أو أحد نوابه) عن القوات المسلحة.
وفى هذه الحالة سيجد الفريق البرهان نفسه في “الغرفة المغلقة” ذاتها التي وضع فيها الفريق حميدتى من قبل، وستخرج له ملفات، وستعرض عليه الجزرة والعصا اللتين عرضتا من قبل على حميدتى، مع إضافة بعض البهارات التي تسهل ابتلاع الصفقة الجديدة المعدلة. في مثل هذا الموقف سيبدو الفارق جلياً بين القائد الحقيقي والقائد الظرفي.
ملامح الحل
هذا، ويسألني بعض القراء: هل لديك-بعد هذه الجولة الطويلة من البحث- حل أو ملامح حل للخروج من هذه الأزمة؟ والاجابة هي أنني لست قريباً-كما هو معلوم- من أي موقع تنفيذي مباشر-سياسي أو عسكري-فتنكشف لدى الخفايا ويتضح أمامي المشهد.
كل ما لدى هو معلومات منشورة ومتاحة للجميع، وكل ما قصدت إليه هو أن أقدم تفسيراً لهذه المعلومات قد يساعد الآخرين-كما ساعدني- في فهم أعميق للأحداث. أما إذا كان لابد من المجازفة باقتراح حل فإني رأيت أنه قد يكون من المناسب أن أنظر أولاً في الحلول التي لجأ عامة السودانيين في مواجهة الهجمة التي شنتها عليهم قوات الدعم السريع (أبريل 2023-) فأدير معهم حواراً عنها لكي نتدارك ما فيها من أخطاء، وما إذا كانت هناك حلول أفضل منها.
إن أول ما يلاحظ في هذا الصدد أن الحلول التي لجأ إليها عامة الناس لا تختلف كثيراً عن الطريقة التي واجهوا بها من قبل “جائحة كرونا”- أي محاولة التعايش/ثم الهروب/ ثم الثبات والمقاومة. ويلاحظ أنهم في كل هذه المراحل كانوا يلوذون بخيار “الخلاص الفردي”- سواء اختاروا التعايش أو الهروب أو المقاومة. دعنا إذن ننظر في هذه الخيارات.
خيار التعايش:
حينما وقعت الواقعة في 15 أبريل كان عامة الناس ينظرون اليها كنوع من صراع عسكري داخلي بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة، أو كأنها صراع في داخل الداخل بين جنرالين أحمقين .
ولا تخص عامة الناس إلا كما تخصهم الخسائر الوطنية العامة التي تنجم عن الانقلابات العسكرية-الفاشلة منها والناجحة. وكان الحل في نظر هؤلاء النفر من المواطنين يتلخص في نظرية “التعايش”؛ أي علينا أن نراقب وننتظر لمن تكون العاقبة.
وحينما بدأت قوات الدعم السريع تدخل منازل المواطنين في الأسابيع الأولى للحرب، وتتخذ لها “إرتكازات” في الأزقة والسطوح، كان أصحاب هذه النظرية يظنون ذلك نوعاً من “التكتيك” الوقائي المؤقت تلجأ اليه قوات الدعم السريع خوفاً من الغارات الجوية التي تقوم بها القوات المسلحة.
وبدأ بعضهم يتقاسمون معهم الطعام والشراب. وحينما شرعت قوات الدعم السريع في تعقب بعض المواطنين واحتجازهم في أماكن غير معلومة، كان أصحاب هذه النظرية يظنون أن قوات الدعم السريع لا تبحث إلا عن عناصر النظام السابق، أو عن العناصر العسكرية والأمنية.
ولكن سرعان ما تبين خطأ هذه النظرة حينما بدأت قوات الدعم السريع تكشر عن أنيابها فتجبر النساء على تسليم الذهب (وعلى ما هو أنفس من ذلك)، وتجبر الرجال على تسليم مفاتيح سياراتهم والخروج من منازلهم، وكان من يرفض الخروج يُشهر في وجهه السلاح، ويُبطح على الأرض ويضرب بالسياط، ويصفع على وجهه ويشتم أمام أبنائه وبناته.
تأكد حينئذ أن قوات الدعم السريع لا تشن حرباً ضد القوات المسلحة وحسب، وإنما تخوض حرباً ضد المواطن، وأنها تتبع سياسة الأرض المحروقة، فتحتل المساكن، وتسلب الممتلكات، وتغتصب، وتقتل، في حرب وحشية مجنونة لا تفرق بين المرأة العاجزة أو الشيخ الكبير، وبين مؤيدي النظام القديم وبين معارضيه. عندئذ سقط خيار “التعايش” تماماً، ولجأ عامة المواطنين إلى خيار الهروب والمخارجة. فهل كان ذلك خياراً نافعاً؟
خيار الهروب:
حينما اشتدت وطأة الحرب، وبدأت مؤسسات الدولة في الانهيار، أدرك المواطنون المدنيون العزل أن التعايش مع قوات الدعم السريع غير ممكن-كما ذكرنا.
فلجأ أكثرهم إلى سياسة “انجو سعد فقد هلك سعيد”؛ أي الخلاص الفردي من قبضة قوات الدعم السريع. فخرج السودانيون زرافات ووحدانا فيما يشبه رحلات الموت.
وترتب على هذه السياسة أن بلغ مجمل السودانيين الفارين من الحرب نحواً من عشرة ملايين (بعضهم في الولايات السودانية الآمنة وبعضهم في دول الجوار).
وفى موجة الهروب الكبير هذه تفاوتت الحظوظ، فالذين لجأوا إلى مصر مثلاً-وأكثرهم من الطبقات الوسطي كانت لهم من الوفورات المالية أو تحويلات أبنائهم المغتربين ما يمكنهم من العيش الكريم.
أما الذين لجأوا إلى تشاد (حوالي 900 ألف) فكانوا أسوأ حظاً لأن أغلبهم كانوا من النساء والأطفال فانتهوا إلى معسكرات أدرى وأرديمي وظلوا يعانون من نقص المياه والغذاء والدواء، ويتجرعون غصص الذل والمهانة.
أما الذين لجأوا إلى أثيوبيا فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. لقد لجأوا إلى معسكر للأمم المتحدة طلباً للحماية فاذا المليشيات الأثيوبية المحلية المسلحة تهجم عليهم، تنهب وتقتل وتطردهم إلى الغابات والأدغال.
خلاصة هذه التجارب المريرة أن خيار الخلاص الفردي باللجوء إلى معسكرات في دول الجوار خيار الضرورة القصوى، وقد يكتشف أصحابه أن العودة إلى الديار السودانية والموت فيها بشرف خير من الموت الذليل في المعسكرات الأثيوبية والتشادية.
فاذا كان خيار التعايش غير ممكن، وخيار الهروب غير مجد، فهل من الممكن أن يوجد خيار أفضل عاقبة؟ ماذا عن خيار الدفاع المجتمعي المشروع؟
الدفاع المجتمعي-المشروع:
فكرة الدفاع المدني المشروع ليست اختراعاً جديداً، بقدر ما هي فكرة قديمة لجأت اليها كثير من المجتمعات التي واجهت حروباً استئصالية تدميرية قاهرة.
والفكرة تتطلب في أساسها (أولاً) أن يقتنع أفراد المجتمع المستهدف أن الحرب التي تدور فوق رؤوسهم ليست مجرد صراع سياسي-عسكري محدود على مستوى القيادات، وإنما هي حرب قاعدية شاملة تستهدفهم جميعاً على اختلاف مكوناتهم العرقية وتياراتهم السياسية؛
وتتطلب (ثانياً) أن يتأكد أفراد المجتمع المعنى أن طريق “الخلاص الفردي” ليس هو طريق النجاة، إذ أن الفرد مهما بلغت قوته وشجاعته لا يمكن أن يتصدى بمفرده إلى قوات مدججة بالسلاح ولا تتورع عن القتل.
وتتطلب (ثالثاً) أن يتيقن الجميع أن الحرب لا تتوقف بالاستسلام لمعتدى جاء عارضاً رمحه، ولكنها ستتوقف إذا علم أن بنى عمه “فيهم رماح”، كما قال شاعر العهد القديم حجل بن نضلة الباهلي.
وتتطلب (رابعاً) أن يؤمن الجميع في أعماقهم أن الحرب هي حربهم، ولا يوجد-بكل أسف- عسكري يخوضها نيابة عنهم، أو مبعوث دولي يوقفها رأفة بهم. ينبغي في مثل هذه الظروف أن يُرفع شعار “الحصة وطن”، فتتحد إرادة المدنيين والعسكريين، واليمينيين واليساريين، فتكون حربهم واحدة وسلمهم واحد، ولا يوجد خلف ذلك غير السقوط.
فإذا تأكدت هذه المبادئ العامة، ورأى غالب السودانيين أن يسيروا في هذا الاتجاه، فذلك يعنى أنهم قد بدأوا يضعون أرجلهم على طريق الحل-على ما فيه من مرارة ومشقة.
إذ ربما تكون هذه المرة الأولى التي يجد فيها الانسان السوداني نفسه أمام امتحان ليس في الوطنية وحسب، وإنما في الرجولة أيضاً.
أما مبعوث القوى الدولية الكبرى فيستطيع بالطبع أن يحرك المجموعة الرباعية والمجموعة الأفريقية، وأن يعقد المؤتمر بعد المؤتمر، وأن يرسل المساعدات الإنسانية أو يوقفها، وأن يعارض أي ادانة توجه لقوات الدعم السريع، أو أي اقتراح لوضعها في قائمة المنظمات الإرهابية، أو لفرض عقوبات على الدول التي تمدها بالسلاح، ولكنه لن يستطيع-في المحصلة النهائية- أن يكسر إرادة الشعب السوداني. ولا قوة إلا بالله.
هوامش:
(1) صحيفة الشرق الوسط، 3 مايو 2023. www.aawsat.com/home/article/4309301
(2) (للتعرف على النقاط الأساسية في اعلان جدة (11 مايو 2023) انظر الجزيرة نت).Aljazeera. net/news/2023/5/12
(3) ( صحيفة الشرق الوسط، 26 أكتوبر 2023. www.aawsat.com
(4) ( انظر المقابلة الصحفية مع بيث فان شاك (Beth Van Schaak) (سفيرة الولايات المتحدة المتجولة للعدالة الجنائية العالمية) www.state.gov/digital-press-briefing-war-crimes.Dec 14